التفاعل بين الحضارات المختلفة
الدكتور عادل عامر
كثر الحديث عن التواصل والتفاعل بين الحضارات المختلفة، بل وصل البعض إلى حد إلغاء الثقافات والحضارات الإقليمية ليحل محلها ثقافة عالمية واحدة هي بالطبع الثقافة الغربية. إن المنطقة الخاصة أو المتميزة لكل حضارة هي التي لا يحدث فيها التفاعل هي منطقة العلوم الإنسانية؛ لأنه إذا كانت التربة الزراعية وهي مادة العلم الزراعي ثابتة الحقائق والقوانين، فليست هكذا النفس الإنسانية التي هي موضوع العلوم الإنسانية. إن الإنسان يولد على الفطرة كأنه صفحة بيضاء فتتكون النفس وتتشكل بناءً على موروث يتغير من حضارة إلى حضارة، بناءً على عقيدة وعادات وفلسفة ورؤية للكون تختلف من حضارة لأخرى. إن النفس الإنسانية إذًا تتشكل بأمور تتميز فيها الحضارات واللغات والواقع والأديان، وهذا هو الذي يجعل منطقة العلوم الإنسانية منطقة تغاير وتمايز في كل الحضارات وهي كالبصمة بالنسبة للإنسان. وكل الحضارات ـ باستثناء التيار المادي الملحد ـ تعترف بوجود إله خالق لهذا الكون، لكن تصور كل حضارة لحدود عمل وفعل الإله الخالق تختلف من حضارة لأخرى، ففي الحضارة اليونانية نجد عند أرسطو أن الله خلق العالم ثم تركه للأسباب المادية المودعة فيه تعمل عملها الخاص وتسيره بمعرفتها، أي أن منطقة عمل الذات الإلهية تنتهي عند خلق العالم، وفي المسيحية دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وهذا مثل تصور أرسطو؛ لأن ذلك يعني أن شئون الدنيا لا علاقة لها بالتدبير الإلهي، فهناك إله خالق ثم إنسان مدير الكون! أما الرؤية الإسلامية فتقول إن الله ليس مجرد خالق للكون، وإنما هو راعٍ ومدبر، والقرآن يقول: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]. وهناك معيار يحكم بين المشترك والخاص في الحضارات وهو طبيعة موضوع العلم، فعندما يكون الموضوع ثابتًا لا يتغير بتغير العقيدة والحضارة واللغة والجنس فهذا مشترك بين الحضارات؛ لأن قوانينه ثابتة لا تتغير، ويدخل في ذلك كل العلوم الطبيعية والمادية، فهي المشترك الإنساني العام الذي يجب أن يحدث فيه التواصل والتفاعل، ويكون هناك تمايز وخصوصية فقط في فلسفة التطبيقات للعلوم المادية؛ فمثلًا حقائق وقوانين زراعة العنب ثابتة لا تتغير بتغير الفلسفات لكن هذه الفلسفة تجعله خمرًا وفلسفة تأكله رطبًا. وحقائق وقوانين الطب لا تتغير لكن طبيبًا يقوم بالإجهاض وآخر لا يقوم بذلك، وقوانين الوراثة وحقائقها ثابتة لكن هناك فلسفة تستخدمها في تشويه خلق الله وأخرى تستخدمها في تحسينه. إن دراسة "فوكوياما" ـ الباحث الأمريكي من أصل ياباني ـ بعنوان "نهاية التاريخ"، والتي نشرها عام 1992م، وذهب فيها إلى أن سقوط الأنظمة الشيوعية في شرق أوروبا والاتحاد السوفيتي؛ جعل العالم يتحول إلى وضع يسود فيه نظام فكري واحد ينظم النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهو المذهب الليبرالي الديمقراطي الذي يعتنقه الغرب ويدعو إليه، ومعنى ذلك فإن سيادة النظام الواحد تعني نهاية الصراع والتجاذب، وهو ما يُعرف بنهاية العالم في المصطلحات الفلسفية. هذه الدراسة أحدثت ردود فعل عنيفة في بلادنا العربية، خاصة من جانب أصحاب الفكر الشيوعي، الذين قالوا: إن التاريخ لم ينتهِ بعد؛ لأن للصراع بقية يقودها مذهبهم. أما دراسة البروفيسور الأمريكي "هنتنجتون" عن صراع الحضارات، والتي توقع فيها أن يشهد القرن القادم صراعًا حضاريًّا على عدة مستويات بين الغرب المسيحي الأوروبي الأمريكي، والشرق المسلم متحالفًا مع آسيا البوذية، هذه الدراسة هي الأخرى أحدثت ضجة كبيرة ما زالت مستمرة حتى الآن، وهكذا يفهم الغرب الحديث مشكلة التواصل بين الحضارات، فإما أن ينفوا ذلك تمامًا، احتقارًا للحضارات الأخرى واعتزازًا بحضارتهم التي يجب أن تسود العالم كله؛ ويعني ذلك نهاية التاريخ كما قال فوكوياما، وإما أن يكون الأمر صراعًا وحربًا بين الغرب والإسلام، وليس من قبيل المصادفة أن يختار "هنتنجتون" الإسلام تحديدًا ليحدد معركته القادمة وعدوه القادم. وهكذا فإن الغرب لم يعبأ لا قديمًا ولا حديثًا بفكرة التواصل والتفاعل بين الحضارات، والموضوع في ذهنه تبعية وضم وإلحاق وهيمنة وسيطرة واحتلال ونهب لثروات الشعوب فقط، أما الأمم المهزومة ـ ونحن على رأسها ـ فتتمحك بالتفاعل والتواصل بين الحضارات وتكثر من الحديث حولها. إن فكرة بعض المثقفين الغربيين عن صدام الحضارات تقوم على الدعوة لمواجهة عدو جديد على أسس حضارية وليست أيديولوجية، توفر رؤية مشتركة للغرب وسببًا للحفاظ على تماسك تحالفه السياسي والثقافي؛ خوفًا من منافسات اقتصادية فيما بين دوله قد تؤدي إلى صدامات تؤثر على صلابة التحالف الغربي. لكن هذه الفكرة في نظر تيار ثقافي غربي أوسع تعكس أحقادًا وعداوات قديمة ودفينة لدى بعض الدوائر في الغرب ضد الحضارات الشرقية‏,‏ خاصة الإسلامية والصينية؛‏ وذلك لاعتبارات تاريخية وعقائدية وسياسية وثقافية‏.‏ إن الغرض من تعميم نظرية "صدام الحضارات" وماشابهها من نظريات؛ "كالصراع الديني والعقائدي", "الحروب الصليبية الجديدة"، و"انتظار قدوم المسيح الدجَّال" .. إلخ، هو إضفاء الشرعية على إنشاء دولة "إسرائيل" ذات الطابع العنصري، والتي هي أصلًا أداة بيد سياسيي واقتصاديي الدول الاستعمارية على مدى تاريخ وجودها، كما يهدف ترويج هذه النظريات إلى إبعاد الأنظار عن الأهداف الحقيقية للتدخلات الاستعمارية في كافة بقاع العالم، وهي كما أثبت ويثبت لنا التاريخ كل يوم أهداف اقتصادية وإستراتيجية بحتة, ويكفي أن نعرف أن الشعب الأمريكي وحده والذي يشكل تعداده 1/ 25 من التعداد العالمي يستهلك 1/4 الإنتاج اليومي العالمي من النفط، وهذا سبب كاف. كما يهدف المروجون لهذه النظريات إلى إيقاع الشعوب المقهورة والباحثة عن حرّيتها وكرامتها في فخ الصراعات الوهمية التي تهدف إلى الإلغاء الجسدي للآخر (تشجيع الفكر العنصري). كما يهدف هؤلاء إلى تشويه التقييم التاريخي الصحيح للأفراد ولأنظمة الحكم والدول والحقب الزمنية وغيرها, بحيث يتم تقييمها في هذه الحالة على أساس انتمائها الطائفي أو العرقي أو القومي، وليس على أساس نتيجة عملها وبمقدار ما ساهمت به في الحضارة الإنسانية. وهناك هدف آخر خبيث لا يفطن إليه الكثيرون؛ وهو سعي هؤلاء الخبثاء إلى الخلط بين حركات التحرر من جهة وحركات الإرهاب من جهة أخرى، واعتبارها كلها إرهابًا مصدره حضارة معينة يجب مواجهتها بحضارة أخرى، (الإرهاب الإسلامي والتمدن الغربي ... نموذج لهذا التشويه والكذب والخداع).