السبت، 22 أكتوبر 2011

محور الطّبيعة ( تدمير الطّبيعة تدمير للإنسان )

المنتزه الوطني يالوستون يعد -بفضل الله- حديقة طبيعية يبدو أنها لم تُدَسْ من قبل. ولكن هذا غير صحيح فتاريخ المنتزه مطبوع بالكراهية والدماء، والعنف والقتل. لنفهم هذا، لا بد من أن يعود الإنسان في الزمن إلى الوراء، وألا يدير ظهره عن أفعاله و"يالوستون" ليس بمنأى عن هذه الحقيقة القاسية.
في بقبقة مستمرة، تصدر بحيرة لزجة فقاعات بيضاء كثيرة -بقدرة الله- تماماً مثل مرجل لا يتوقف، تنفث الوحول الحارقة نشاطاً غامضاً مستمراًٍ. وعلى مسافة قصيرة تُسمع حشرجة متقطعة مخيفة. في أعماق الأرض، وفجأة، يتسبب رذاذ بخاري باهتزاز الأرض.
رذاذ مياه حارقة هائلة تشتد من لحظة إلى أخرى. وخلال لحظات، تُنفث مواد منصهرة عملاقة بقوة إلى الأعلى، فيما يختفي منظر الشمس في حركة سريعة.
عمود البخار لا يتضاءل، بل يظلّ ينثر الرذاذ بقوة في الغابة المحروقة، مغطياً الأفق تماماً.
عند حلول الليل، تبدأ الأرض كلها بالقرقرة، فيتزايد الدخان السام.
على ضوء الفجر، تستعيد الطبيعة سكينتها بإذن الله. فتسيل المياه الساخنة في الأنهر الهادئة.
وحول المرجل المستكين، تشاهد طحالب فاتحة اللون. الزهور تتفتح على ضفة الجدول البلوري...
وفي وسط البحيرات، تظهر الفقاعات الكبيرة وكأنها الدلائل الوحيدة على الطاقة الخفية لقوى باطن الأرض.
الهنود الحمر يسيرون على ضفاف النهر. فهم يعرفون "يالوستون" منذ القديم. ومرورهم الدائم واضح من خلال الآثار التي لم تُمْحَ.
على مر الفصول، يجتازون المنطقة بطريقة متعرجة جيئة وذهاباً. لا تظهر قبائل شوشون، وبلاكفوت، وقبيلة الغراب أي خوف من ينابيع المياه الحارة هذه؛ لأنهم يعدونها ظواهر طبيعية، وليدة عملية خلق من آلهتهم الباطلة.
وحسب عقائدهم الوثنية فإن الطبيعة هي الأم المطعمة التي تؤمن المورد لكل المخلوقات، من أصغرها إلى أكبرها.
الهنود معتادون على اضطرابات الأجواء من الرياح العاتية إلى العواصف القاسية. وليس لديهم أي خوف أمام هذه الظواهر الطبيعية. وأي حركة مروعة منهم هي كاكتشاف المكتشفين الأوائل.
في الحقيقة إن الهنود الحمر من الشعوب الوثنية. ولذلك فإن الظواهر الجيولوجية بالنسبة إليهم مظاهر شيطانية.
ولكن الأمر مختلف. فالهنود الحمر لا يخافون أبدًا من ينابيع المياه الحارة. والأكثر من ذلك أيضًا أنهم يستغلونها بطريقة عملية جداً. فالمياه الساخنة تسرّع من طهي الطعام. إنهم يرون في يالوستون مكاناً مفيداً جداً.
لقرون خلت، عُدَّت المنطقة أرضاً للصيد. وصيادو الهنود يستخدمون القوس والنشاب للصيد من مسافات قصيرة.
الحياة البرية موجودة هنا بفضل الله. في الواقع، بقي جزء كبير من هذه المنطقة بعيداً عن يد الإنسان.
المصدر الأساسي للطعام هو الأيل. واستخدام الأيل له أسبابه الواضحة؛ فالهنود لا يقتلون الحيوانات من أجل الرياضة وحسب. كل جزء من الحيوان له استخدامه. فيُفصل جلد الأيل أو الجاموس بانتباه. ويُستخدم لصناعة الملابس والخيام أو ما تسمى بالتيبة حيث ينامون.
النار أداة مفيدة جداً بالنسبة إلى الهنود. فقبيل نصب المخيم يضرمون ناراً محددة. الهدف من النار هو تحديد الأرض لنصب التيبة. ويضمن رب الأسرة بأن تحترق النار ضمن حدود معينة.
ولكن النار تظهر أيضًا بقعة كل الحيوانات الطفيلية الصغيرة والحشرات. فيعرف الهنود بالخبرة بأن بعض المخلوقات يحمل أمراضاً قاتلة أو مؤذية.
ويتم قطع بعض الأشجار لتسهيل المرور وإظهار الآثار جيداً.
كما أن المشاعل تُستخدم عند الصيد في مجموعات. وقد يضرم البعض النار في مناطق تسكنها الحيوانات، فيزداد خوف المجموعة أكثر فأكثر، والبعض يبتعد عن القطيع.
الهنود يعرفون مسبقاً هذا السلوك، فينتظر الصيادون وصول الحيوانات.
مرة أخرى، نجحت الطريقة القديمة جيداً. جاموس واحد يكفي أسرة كاملة لأسابيع مستغلين كل ما يبقى منه.
هذه النيران المتعمدة المحدودة تساهم في إعادة نشوء الأشجار الميتة -بقدرة الله.
فضلاً عن ذلك، تعيد فسيفساء من النباتات المتكاثرة تمركزها في المناطق المحروقة. فتنتشر -بأمر الله- براري واسعة حيث كانت الغابة يوماً. هذا من حسن حظ الحيوانات أكالة العشب، مثل الجواميس.
بينما تستمتع حيوانات أخرى بالمسافات الواسعة المفتوحة. ومعها تتوالى الحيوانات المفترسة مثل ذئاب القيّوط.
 
 
لعقود مرت، كانت منطقة يالوستون تتأثر بوجود الهنود الدائم. وعلى الرغم من الحقيقة المعروفة لهؤلاء السكان، قررت الحكومة عَدَّ المنطقة بأكملها منطقة برية متكاملة. وحُددت على أنها منطقة "عزلة فطرية".
فمُسح الهنود عن المنطقة على يد المستكشفين الأوائل. بعد أن سادت أساطير عن هنود يخافون من ينابيع المياه الحارة، وهي قصص ألفوها بأنفسهم، اغتر البيض باكتشافهم المزعوم لطبيعة لم تطأها قدم.
فيتعجبون أمام جمال الشلالات الأخاذة، المحاطة بصخور صفراء استمدت المنطقة منها اسمها.
مع السيول والرعد، تغمر الصخور صور رائعة من جمال الطبيعة أبدعها الخالق -عز وجل- فتنحت المياه الهادرة الصخور على الدوام وسط ألوان متلألئة من قوس المطر المستمر، مذكراً بقوة بالطاقة الهائلة التي تنحت الجلمود -بقدرته تعالى.
تنبع الينابيع الحارة باستمرار، كاشفة فجأة عن القوة الخفية لباطن الأرض، الناشط دائماً.
وفي وسط عناصر بركانية واضحة المعالم، تعدّ حيوانات المنطقة جزءاً من الموقع الفطري. الجواميس، تظهر وسط الضباب الكبريتي، كما لو أنها حيوانات خرافية. قوتها الهادئة المناقضة لعنف العناصر البركانية، تُظهر ازدواجية جميلة.
لا بد من حماية هذا الإرث للأجيال القادمة. وهذا ما سيكون -إن شاء الله.
عام 1872، أنشأ الكونجرس الأميركي المنتزه الوطني يالوستون على مساحة 2 مليون آكر منتشرة بين ولايات وايومينغ، ومونتانا، وأيداهو.
الهدف الرئيسي منه كان وضع هذه المنطقة بين أيدي العامة، لأجل الاستفادة منها والتمتع بها. في تلك الحقبة، كانت المنطقة غير معروفة بمعظمها. ولم تُسجل على الخريطة حتى عام 1885، عندما رُسمت الحدود.
لكن إنشاء المنتزه، على الرغم من هدفه الكبير للحماية، كان على خطأ محوري. فقد تم إنكار وجود أسلاف الهنود الحمر تماماً. واعتبرت تلك القبائل التي سكنت يوماً ما هذه المنطقة لقرون على أنها بدو رحّل، واتُّهمت بكل الشرور.
وتم تطبيق القرار المجحف بصرامة. ولم يعد يُسمح ببقاء أي هندي في يالوستون. والأهم من ذلك، لم يعودوا موجودين، وأصبحوا عند الأمريكيين كائنات أدنى من مستوى الحيوانات. إلا أنهم لم يبادوا كلهم فالسلطات تراجعت قليلاً عن ظلمها الكبير بإعطائهم مناطق خاصة لهم، يُمنعون من مغادرتها. فكان عليهم أن يزرعوا الأرض كالفلاحين الحقيقيين.
الأماكن مختارة بعناية. سهول جليدية حيث الأرض غبار تحيط بها الجبال، وحيث تكثر العواصف. هذه هي الأماكن المذهلة التي تشكل محميات الهنود.
أما الهنود فيبكون خسارة أرضهم، يحلمون بتلك المساحات الواسعة حيث عاش أسلافهم بسلام. لكن البعض يتمرد على هذا الظلم. فعهد الخضوع ولّى. وصنعوا أسلحة جديدة فعالة بسرعة. فانتهاك القانون أهون من الموت جوعاً.
البرد والليل أصبحا شريكي الهنود الذي يعرفون المنطقة تماماً.. المسئولون عن المنتزه غاضبون.. والهنود يظهرون لهم قتلة متعطشين للدماء. فتحولت صورة الهندي البدائي إلى كابوس، على العكس، عُدَّ البيض صيادين طيبين. ويهدفون إلى إخضاع كل الطبيعة بزعمهم لهم. فهم الوحيدون القادرون بغرورهم على تقدير كمية الحيوانات التي يجب اصطيادها وأنواعها. أصبحت علاقتهم بأسلحتهم مَرَضِيَّةً تقريباً. كل طلقة تمنحهم متعة. إنهم بزعمهم ملوك الأرض وسادتها، وكل الحيوانات تخضع لهم.
بينما يعدّ الهنود -الملعونون على لسان البيض- قتلة متعطشين للدماء مبتذلين. ثم يسمع المرء أنهم يهاجمون الحيوانات فعلاً على أطراف المنتزه. فينتهكون القانون. حالة غير مقبولة أبدًا لدى البيض.
ولردع مثل هذه الاعتداءات، لا بد أن يتصرف المرء بصرامة. فقررت الحكومة أن تخفّض بشكل قاس مساحة محمية الهنود. فحُصر الهنود المعتادون على المساحات المفتوحة بسياسات جديدة لتقليل المساحات. كما أنهم ممنوعون من مغادرتها.
وداعاً أيتها الأرض الحبيبة، فيما الظلال ترمي أثقالها على الوديان المفقودة. أما اللعبة الغامضة من الأضواء المتناغمة اللاحقة فهي ليست سوى ذكرى بعيدة.
فتعيش الألوان الملتهبة في الأودية الضيقة التي لا تُسبر أغوارها على الأحلام. وحيدة تبقى رسالة قوس المطر الغامضة.
يظن المسئولون عن المنتزه أنهم سيعيشون الآن بسلام، فقد تم إعادة تمركز الهنود في منطقة بعيدة، بعيدة جداً. إلا أن خطراً آخر يقترب. إنهم المزارعون البيض الذين استوطنوا قرب المنتزه.
أما السياح الأوائل فيتأملون روعة الشلالات المتحجرة للينابيع الضخمة. المياه الصافية النقية التي تتلألأ في الشمس، تنتج كتلة نقية مذهلة في عالم حالم. وبجريانها المستمر تحوِّل المواد المعدنية إلى أحواض وروابي متعددة -بقدرة الله تعالى.
إلى جانب رموز القوة المعدنية هذه تعيش قطعان الأيائل. هذه الحيوانات رائعة بسبب وفرة موارد الغذاء. فيصل الذكور -بتقدير الله- إلى أحجام هائلة وتنمو قرونها كثيراً بحيث تشهد على قوة كبيرة.
لكن هذه القوة الحيوية تقف أمام عدو صغير؛ هو الرصاصة.
ها قد بدأت سرقة الصيد الشائعة. القناصون يعرفون أن القانون يمنع أي اعتداء على الحيوانات، لكنهم لا يأبهون.
 
 
عام 1975، قدرت نوريس المراقِبة مقتل أكثر من سبعة آلاف أيل من أجل جلودها في مقاطعة واحدة من الينابيع الهائلة. خسارة إرث لا تُثمّن.
أصوات تحليق الشحرور في سماء يالوستون حزينة، يطير من جيفة إلى أخرى. إنها تتبع رائحة الموت.
على سفح الشلال في ماموث سبرينغز الطيور المتخمة شاهدة على الكارثة. ولكن كيف يحصل هذا الموقف في منتزه طبيعي تعترف به الدولة بكاملها؟
هناك الكثير من المشاكل، المراقِب المسئول عن إدارة المتنزه يتلقى أجراً زهيداً، وهذا ما دفع بـ"ناثانيال لانغفورد" الذي عُيّن أولاً، إلى العمل بدوام كامل في مصرف. فلا يزور المنتزه أبدًا، بعد أن أنهكته المهام الإدارية المكتبية.
فلم يقر الكونجرس سوى عام 1883 تخصيص أموال لتعيين عشرة مساعدين. ولكن الرجال الذي أُرسلوا إلى يالوستون لم يكن لديهم أي معرفة بالمنطقة. فضاعوا فيها وفُقدت السلطات. بعضهم وجد نفسه في الطبيعة للمرة الأولى فلم يتمكن من التأقلم مع الحياة القاسية. بينما يُعزى عدم كفاءة البعض الآخر إلى استخدام أساليب توظيف متخلفة.
لكن القانون غير واضح والعقوبات سخيفة. إذا تم الإمساك بصياد في المنتزه يُطرد منه. ويطلب منه الحارس العودة من جديد، وهذا ما يشكل نكتاً تحكى في المطاعم المحلية. خصوصاً أن الصياد لا يُطرد سوى مرة واحدة، ولذلك يعود فوراً إلى متابعة أعماله التدميرية مجدداً.
الدواء أمرّ من الداء، ولكن ها هي وزارة الداخلية تتقيّظ للمشكلة. وفي مناورة غير مألوفة، يتم وضع المنتزه الوطني ضمن منطقة صلاحيات وايومينغ. لأن القوانين الفدرالية تتمتع بنفوذ القانون المحلي في هذه الولاية.
بسبب هذا التعديل، أمسكت سلطات يالوستون، وللمرة الأولى، رسمياً، بصياد معروف اسمه جورج ريدر، قاتل الأيل والسمور.
وأخيراً، تمّ تطبيق القانون، غير أن تهديداً جديداً برز إلى الواجهة. بسبب المنشورات الكثيرة التي تظهر عجائب هذه المنطقة، بدأ السياح يأتون بأعداد متزايدة أكثر فأكثر.
في المدخل الشمالي للمنتزه، امتدت مدينة غاردينر الصغيرة لترحّب بالزوار. ولكنهم مع الأسف، ليسوا وحدهم. فقد وجد الصيادون مكاناً مثالياً، البيوت الموجودة على أبواب يالوستون نفسها. فلم يعد من أماكن خالية بين المنتزه ونشاطات الإنسان. فأصبح الصيد غير المشروع أمرًا سهلاً جداً.
وعند كل مغيب، تبدأ عمليات الصيد. فتُنحر مئات الأيائل وتُنقل إلى المدينة. فبقيت هذه الأعمال من دون عقاب على الرغم من تعيين رجال شرطة لتطبيق القانون بصرامة. لماذا؟ مع الأسف، لسبب بسيط جداً: الفساد يتزايد شيئاً فشيئاً. لذا، بعض الدولارات كافية لإسكاتهم.
فيسمح رجال الشرطة لأنفسهم بأن يباعوا، ويغضون الطرف عن نشاطات الصيادين. فيستحيل لذلك الدفاع عن هذه الحالة. هل يُحكم على الحيوانات الرائعة بالانقراض، بسبب أخطاء بضعة رجال؟!هل ستتحول القطعان الهائلة إلى أعداد متناثرة من الجلود المسلولة؟!
عام 1886، تحركت الحكومة بقوة واضعة يالوستون تحت حماية الجيش. فدخلت مجموعة من خمسين فارساً بقيادة القبطان هاريس إلى المنتزه. بالمبدأ، كان هذا الأمر مؤقتاً.. ولكنه استمر حقيقة لاثنتين وثلاثين سنة. فبدأت مغامرة جديدة لكن مأساوية في يالوستون.
في البداية، كان حماة الطبيعة والسلطات متحمسين. وكانت الشرطة الأميركية أقوى شرطة فعالة لحراسة الغابات. لذا، بات يدير يالوستون ويحرسها سلاح الفرسان الأميركيين. ولكن مع الأسف، الواقع كان مغايراً تماماً.
فكان بعض الضباط يتصرفون بظلم، مثل المقدم آندرسون، وهو رجل نافذ وعنيف. هوايته الأولى اعتقال المواطنين الأبرياء بحجج واهية.
بشكل عام، لم تكن الاتهامات مبنية على أسس، وكان البريء ينتهي أمره في السجن. فاستشاط السكان غضباً بالطبع جراء هذا الظلم. لكنهم أدركوا أن الجنود يتحلون بموقف أكثر صرامة. فكان القانون يُنتهك على الدوام.
عندئذ، عُدَّ المنتزه منطقة غير واضحة المعالم مفتوحة للجميع. فقُتلت الحيوانات دون عقاب. غير أن ثروة أخرى في المنتزه كانت تتعرض للنهب. فلم يكونوا يعتدون على الحيوانات وحسب، بل على مادة المنطقة نفسها.
في تلك المدة، كانت الأشجار تشكل ثروة حقيقية. وبسبب البرد، كانت تنمو ببطء شديد. فتمضي الشجرة خمسين عاماً لتصل إلى حجم البلوغ. وفي غضون ثوان، ينتهي أمرها.
آلاف الأشجار تُنقل كل يوم على يد سكان المنطقة. لكن هذه السرقات الكثيرة لها تفسير؛ فمعظم المباني مبنية من الخشب، ولبناء مدينة، تحتاج إلى كمية هائلة منها. فهذه المادة تتمتع بعدة حسنات -بفضل الله- مثل سهولة نقلها، وكمية العزل، وتمثل مظهراً للدفء. ولكن فيها عيباً كبيراً هي أنها تحترق بسهولة. والحرائق شائعة في الغرب.
لذا، لا بد من قطع المزيد والمزيد من الأشجار، بلا توقف، لإيقاف حرائق غابات المنتزه، فحفزت بعض الحوادث السلطات العسكرية أكثر فأكثر.
 
 
بات غزو القطعان نادراً. مرة أخرى، يرى السكان أنه من السخافة الحد من دخول القطيع إلى المنتزه. فالعشب ملك الجميع. هذا الانحلال الدائم أدى إلى رد فعل من الجيش. فتم اتخاذ قرار جذري.
عام 1903، تم بناء سياج بطول تسعة كيلومترات تقريباً مقابل غاردينر، فأصبحت الحدود مرسومة بوضوح، وتم تحذير السكان بأنهم موجودون أمام قلعة محصنة.
ولتسويغ وجود الجيش، بُنيت المباني الحجرية في ماموث سبرينغز. القلعة يالوستون.
مجموعة مذهلة، كبيرة ومبنية بإتقان. هذه البيئة أهلٌ لوجود سلاح الفرسان الأميركي. وشكر الضابط إلهه الذي ساعده على إنقاذ أجمل المنتزهات في المنطقة.
"أيها الرب إني اعهد بنفسي إليك لتساعدني على تحقيق مهمتي في هذه الأرض البغيضة، المليئة بالناس المتهورين والخارجين عن القانون".
كانت الدولة مقتنعة تماماً بفعالية الجيش حتى أنها اقترحت على الرئيس روزفلت المجيء للتأمل في إحدى عجائب الغرب.
كان مدخل المنتزه رائعاً. وكان محفوراً على حجر، العبارة التالية ليقرأها الجميع: من أجل مصلحة الشعب ومتعته.
ظل الرئيس الذي زار المنتزه ثلاث مرات، معجباً بالثروة والتنوع اللذين وجدهما فيه.
غادر روزفلت يالوستون وهو متأثر بالهبة الغنية من الله تعالى التي أهملها الكونجرس.
هذه المحمية هي أرض معطاء طبيعية وهي موطن لأولئك الصيادين الكبار.. على شعبنا أن يفهم بأنها محمية من أجل أطفالهم في المستقبل، بجمالها الفطري غير الفاسد. هذه النظرة المثالية كانت بعيدة تماماً مع الأسف عن الحقيقة.
في الواقع، في يالوستون، الجيش هو من فرض عدم فعاليته. إذ لم يسمح التجديد المنتظم للجنود بأن يعتادوا تضاريس المنتزه. فما إن يحيدوا عن الطرقات المعروفة، حتى يضيعوا تمامًا، وكان الصيادون يعرفون هذا الأمر ويستغلونه كل ليلة.
واقعيًّا، لم يفد استقدام الجيش بشيء. إذ ظل الصيد مستمراً. وظلت الحالة تتدهور أكثر فأكثر.
أجل، فبعض الجنود تعاونوا مع الصيادين. لذا، لم يُؤَدِّ وصول الجنود إلى حماية أفضل للمنتزه، بل على العكس، ولاسيما عندما يطوّر الصيادون خططاً جديدة.
فيتم تطوير تقنيات جديدة وتصميمها في ورش سرية صغيرة. مثل كاتم لصوت البندقية. فبواسطة أنبوب مثقوب، يمكن تخفيف صوت إطلاق النار من البندقية بشكل كبير. وراحت آلات جديدة للقتل تظهر، وهي أكثر فعالية وأكثر هدوءاً.
وللتعويض عن نقص الألفة مع المنطقة، كلّفت الحكومة الكشافة وهم من السكان ومستقلون عن الجيش. يتم اختيارهم على يد سكان المنطقة. إحدى مهامتهم هي إرشاد الجنود في متاهة يالوستون الملتوية.
الثلج هناك يجعل الطرقات صعبة في معظم الأحيان. والجنود لا يتمتعون بتجهيزات مناسبة فيجدون صعوبة في اللحاق بمرشديهم.
لكن الحاجة كانت أيضًا لكشافة يبحثون عن المعلومات في الوديان لاكتشاف الصيادين. كان بعضهم مجتهداً وكانوا يضعون تقارير مفصلة. بينما يختار البعض الآخر الحياة السهلة، مفضلين تمضية أيامهم في الصالات عوضاً عن مواجهة الصخور الجبلية.
كان التوظيف منحلاً. كان بإمكان أي أحد أن يصبح من الكشافة، في هذه الظروف، لا يجدر أن يتفاجأ المرء من أن 1 أو 2 بالمائة من الصيادين فقط يُقبض عليهم.
والذي يُقبض عليه يكون عادة مبتدئاً في العمل. كما أن العقوبة قصيرة جداً، عبارة عن احتجاز لبضعة أيام. ويتعهد السجين بأن يبدأ عمله من جديد.
في هذا الوقت، استمر الصيادون الهنود بالتسلل إلى المنتزه ليجدوا اللحوم اللازمة لإطعام أسرهم. ولكن بالنسبة إليهم، القانون يُطبق بصرامة. فلا أحد يتردد في قتلهم كأي حيوان.
عادت الكراهية للهنود الذي يُعدّون كائنات دنيا لتُطبّق بلا ندم. لذا أصبح منتزه يالوستون رهيباً للإنسان والحيوان على حد سواء. وكل ما يُذكِّر بوجود الهنود لا بد من محاربته، حتى الحرائق.
كانت مهمة الجنود إطفاء الحرائق التي كانت تُُضرم عمداً. وهذا عمل خطير لا بد من القيام به من أجل المحافظة على قيمة المنتزه. ولكن الأمر برمته غير سليم. فحرائق الهنود المتقطعة كانت ضرورية للتوازن البيئي، لا سيما في المحافظة على المروج.
ومنذ أن توقفت ممارسة الأسلاف، راحت الصنوبريات بتقدير الله تجتاح المناطق العشبية.
الأيائل أكثر الحيوانات احتراماً في المنتزه. فعلى ضوء شروق الشمس الذهبية، يتجلى وجودها قرب ينابيع المياه الساخنة شعراً يتأمل جمال الطبيعة. كانت الإناث تلد بسهولة بسبب وفرة الطعام -بفضل الله-، الصغار يولدون كاملين وأصحاء.
ذكر ضخم واحد يسيطر على قطيع من الإناث. موقفه المثير هذا يرمز إلى القوة والنفوذ. قتل الأيل يعد جريمة هنا. والجيش موجود ليمنع هذا الأمر.
مع الأسف، لم يكن الضباط يهتمون بالبيئة. بالنسبة إليهم، كانت الأيائل تواجه أعداء آخرين غير الهنود والصيادين. من؟ إنها الحيوانات المفترسة كلها. هذا صحيح. وهي كثيرة في المنتزه.
يمكن العثور على ذئاب في أعماق الغابة. والوشق يسكن المناطق الصخرية. أما القيّوط فهو في كل مكان، يجول بارتياح في المروج وفي الغابات.
 
 
رأى قائد الجيش أنه حان الوقت للتخلص من كل قتلة الأيائل هؤلاء. وطوال الشتاء، تُرتكب المجازر الجديدة. والجيش يتصرف بفعالية كبيرة.
في الثلج الجليدي مئات الجيف غطت يالوستون. فبعد أن كانت الأرض مقاطعة لحماية الحياة، أصبحت مقبرة حقيقية.
هذا القتل غير المتوازن للحيوانات المفترسة للأيائل نتيجته واضحة: تزايد عدد الأيائل التي لا تفترسها آكلات اللحوم بشكل سريع. هذا التزايد الحيواني غير الطبيعي يؤدي إلى تدن واضح، إذ تختفي أشجار الصفصاف والحور.
لكن هذه الأشجار ضرورية للسمور من أجل بناء السدود. وخلال سنوات قليلة، خسر المنتزه جنساً آخر من أجناسه. الأنهار تجري -بقدرة الله- مسببة انجراف تربة قوي.
واختفاء سدود السمور له تبعات أخرى، وهي أن عدد المستنقعات والبحيرات سيقلّ.
أدار الجيش الذي لا يتمتع بمعرفة بالبيئة، هذا المنتزه وكأنه حملة حرب. والنتائج كارثية. ولا يمكن تخفيف نشاطات الصيادين؛ لأنهم يطورون دائماً تقنيات جديدة. فالصياد يدخل المنتزه كأنه سائح عادي. ولكن في المكان الذي يعرفه هو وحده، كان قد خبأ السلاح. وأصبح جاهزاً للمضي في الصيد من جديد.
ومن أجل إخفاء الآثار، يعمد البعض إلى السير بجانب النهر. فيصبح من المستحيل عملياً اكتشافهم. بضع طلقات نارية تدوّي في الليل.
القانون يُطبّق ضمن حدود يالوستون فحسب. البعض فَهِم ذلك بسرعة، فراحوا يطاردون الحيوانات خارج حدود المنتزه.
وفي بعض الحالات، يتم الإمساك بالجواميس البرية الصغيرة. وبعد أن تحبس في مزارع، يتم تربيتها إلى أن تصبح بالغة وتصبح تذكاراً للصيد.
وصحيح تماماً أن الطلب مرتفع. فرأس الجاموس يعطي انطباعاً بتركيز كل القوة على موضوع واحد. وبامتلاكه، يظن الإنسان المغرور الجاهل أنه امتلك جزءاً من المخلوقات. فيصبح جباراً.
أما البعض الآخر، فأكثر شذوذاً بحيث يهتمون ببعض أعضاء الجسد الضخم. بالفعل لديها أسنان قواطع خاصة. ويتم وضع هذه الأسنان في إطارات الجواهر. العمل دقيق جداً ومتعِب جداً. الذهب يُستخدم داعماً أساسيًّا. الحرفيون المتخصصون قادرون على التوصل إلى نتائج متناغمة، فتزيد من روعة أسنان الأيل.
هذه التركيبة الدقيقة مطلوبة من أعضاء ناد يسمى "نقابة حماية الأيل التطوعية". وللدخول في هذه الجمعية، من الضروري أن تمتلك قطعة الجواهر هذه. لذا، من أجل المظاهر الفارغة، يتم التضحية بمئات الحيوانات. فيزداد الصيادون ثراءً دون مجازفة. من سيتمكن من إيجاد أثر لهذه البقايا الحزينة، التي قُدّر لها أن تكون أغراضاً محتَقرة لتزيد من زينة رجل خسيس؟
في منتزه يالوستون الوطني، تجتمع الأيائل في السهول والغابات. تجتمع قطعان الجواميس قرب الأنهار. دون معارك، ودون كراهية، كانت تشكل تجمعات منذ سالف الأزمان -بقدرة الله عز وجل-. لمَ لا نترك هذا الإعجاز الطبيعي القيم يعيش بسلام؟ الأسباب كثيرة ومترسخة في أذهان رواد الغرب الأمريكي.
لعقود خلت، كان عليهم أن يواجهوا مناطق عدائية وقاسية. كان عليهم أن يبنوا كل شيء، ويبدؤوا من الصفر ليتمكنوا من الاستقرار.
عناصر الطبيعة كانت هي العدو بالنسبة لهم في مرحلة أو أخرى. ولم تكن الراحة موجودة في الجبال الخطرة التي أحرقتها النار. وكانت الأودية السحيقة الضيقة ترعد حيث السيول تزمجر، والشلالات تجري لمئات الأميال باستمرار.
كان على الرواد أن يواجهوا البرد القارص في الجبال العديدة، حيث كانت المخلوقات الوحيدة التي تبقى هي الأشجار العارية الملتوية، تماماً كالجماجم. وحر القيظ في الصحارى الملتهبة حيث الصخور نفسها تبدو وكأنها تهرب من تلك الأمكنة القاسية.
دون أن ننسى النار، التي تدمر في غضون ثوان، في زوبعة محرقة سنوات وسنوات من العمل.
أجل، لقد عانوا كثيراً للوصول إلى هذه المرحلة، إلى أطراف هذه المساحات الواسعة. والآن، يأتي هؤلاء المسئولون لا أدري من أين، ليفرضوا قوانينهم الخاصة.
من مكتب بعيد في شرق أميركا، يقرر شخص ما حيازة هذا الجزء من البلاد، معلناً إياه منطقة محمية. لقد أصبح منتزه يالوستون انحرافاً سببته واشنطن.
بالنسبة إلى رجال الغرب، يمثل انتهاك القانون دليلاً على رجولتهم. من دون وعي، يربطون الصيد بالسيطرة. إحضار فريسة غير قانونية يعدّ غزواً يتحدى الممنوع، وفي المساء، يدخلون النادي، للاحتفال بهذا الانجاز بزعمهم، فيخلطون الغرور مع التبجح.
هذه العقلية شائعة جداً إلى درجة أن الحكام المحليين باتوا متفهمين جداً. وحتى عندما يتم الإمساك بالصيادين ينالون شفقة الناس. فيتم الإفراج عنهم في معظم الأحيان.
بالإمكان مصادرة قرون الظبي أو أي مواد من الصيد. بعض الضباط يدركون واجباتهم ويعاملونهم بجدية، مسجلّين كل انتهاك مع أمين السجلات.
لكن الصياد هو أيضًا يعرف القوانين وسرعان ما يعود. يدّعي بأن الأيل آتٍ من خارج المنتزه. ويصر على أن معه عدة شهود. ومن يستطيع الشهادة بالعكس؟ فلا يعود أمام الضابط الغاضب خيار آخر إلا أن يعيد القرون.
 
 
في هذه الظروف، تزداد الحالة سوءاً. فيجتمع الصيادون معاً، ويشكلون عصابة حقيقية مسلحة بأسلحة ثقيلة. فيتم اصطياد قطعان الجواميس التي لم يتبقَّ منها سوى بضعة آلاف.
صيد بجهد قليل؛ لأن الحيوانات مسالمة وهي دون دفاعات تقريباً.
بعد مدة، سئم المواطنون من عمليات الصيد هذه، بما أن مرتكبي هذه المجازر لم يُعاقبوا قط. ولكن، خوفاً من الثأر، لا يستطيعون سوى كتابة رسائل من مجهول إلى السلطات.
"راي ستنسون" صياد يدخل المنتزه كل ليلة. يعيش في مزرعة خارج القرية. مهما فعلت، لا تنطق باسمي. إنه مجرم وقد يقتلني بالطريقة نفسها التي يصطاد بها الأيائل في المنتزه.
بدأت المواقف تتغير ببطء. ولكن ليس مع الجميع. فالآتي أعظم.
في سكون الليل، يبدو أنه يتم تحضير احتفال غريب، لا يعكّر صفوه سوى نعيب البوم. من دون أية كلمة، وعبر اتفاق ضمني صامت، ينشغل ثلاثة رجال دون أية ضجة.
التصميم في تعابيرهم ينعكس على السكاكين اللامعة، معطياً إياهم اشتراكاً رمزياً. ولكن لماذا يصنعون أسلحة بدائية، ليقلدوا طرق صيد أسلافهم؟!
آثار الدماء على الثلج الحديث تظهر المهزلة المركّبة التي حدثت.. الصيد من أجل المتعة. حدث هذا العمل البغيض عام 1915. قطع المعتدون السياج الذي يحمي المنتزه قرب غاردينر. وبواسطة السكاكين الموضوعة في نهاية العصي، راحوا يقتلون بهمجية ونظامية الأيائل التي يجمعها حراس منتزه يالوستون في حظيرة مسيّجة.
ولكنهم لم يأخذوا لا اللحم ولا القرون. ولم يتركوا وراءهم سوى الحزن والأسى جراء قتل حياة. إسراف في القتل الفظيع دون أية فائدة. كيف يمكن أن نفسر مثل هذا الاعتداء المقرف؟
سادية مطلقة. ربما، ولكن أيضاً بسبب ثورة تنمو عاماً بعد عام. فقد أدت سياسة حماية الأيائل والجواميس إلى قضية غير منطقية. فقد أصبح عدد الأيائل كبيراً في المنتزه. والحل الأفضل لتسوية هذه المشكلة يبدو منحرفاً تماماً. إن الفائض في الحيوانات الذي يسببه قتل الحيوانات المفترسة الطبيعية، يُفضل نقله إلى منتزهات أخرى في القطارات. وقد تُرسل بعض الأيائل إلى حدائق للحيوانات.
من جهة أخرى، خارج يالوستون، لم تتوقف الحياة الحيوانية عن الانحدار بسبب الظروف المناخية والصيد.
وبدأ الجنود الآن يبدون كحماة كنوز محتجزة. يستحيل مهاجمة الجيش، فهو محصن بالسلاح جيداً. قوتهم هذه جعلتهم سادة المنتزه بأكمله؛ لذلك صار المرء يفرغ غضبه عبر الاعتداء على الحيوانات التي أصبحت رمزاً لكل تلك القيود وتلك الضغوط. ولكن مجزرة الأيائل الوحشية، المتسلحة بأسلحة البيض تتخطى القبول. وتسبب ردة فعل فورية من السكان.
مكافأة بـ300 دولار أميركي، وهو مبلغ جيد، يقدّم إلى كل من يسلّم رجالاً مذنبين.
هذه الحلقة الدموية تطبع رمزياً نقطة حاسمة من تاريخ محمية يالوستون. وقد لا تتكرر مجدداً. فقد أصيب سكان القرية العاديون بصدمة جعلت الظروف الأخيرة -بفضل الله- تتغير أخيراً.
تعديات بداية تاريخ المنتزه الكثيرة التي ظلت خفية لوقت طويل ستبقى مليئة بالدروس. فهي تظهر الصعوبات الكثيرة للسياسات السائدة في المحمية الطبيعة.
لا يعبث الإنسان بنعم الله ويفلت من العقاب. لطالما كان الإنسان الغربي ضد الطبيعة. ومع جهود واضحة، بعضهم يتجاوز هذا الموقف ويرغب في تجاوز الميول القديمة جداً. ولكن النجاح غير مضمون البتة. فحالة يالوستون الآن جاءت نتيجة صراع مستمر. والأخطاء الكبيرة تُرتكب على الرغم من بعض النوايا الحسنة.
تطورات يالوستون نتاج موقف الإنسان الغربي المزدوج المتناقض، الكراهية القديمة للطبيعة، ولكن هناك خوف أيضًا من مظاهرها العنيفة. في إشراقة اليوم الغائم، تظهر الطبيعة ساكنة. لكن قد ينهض الشر في أية لحظة. ويبقى الرجاء بالله تعالى دائماً.



منقول عن موقع : قناة المجد الوثائقيّة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق